-
مقدمة
يدخل مصطلحا الديمقراطية والدكتاتورية في حياتنا اليومية، ويقترنان بمصطلحات أخرى كالحرية والنمو الاقتصادي. بيد أن معظمنا قد لا يمتلك تعريفاً واضحاً لهذين المصطلحين، أو الحد الفاصل بينهما.
سيكون هذا المقال تمهيدياً يتطرق بإيجاز إلى بعض من تاريخ الديمقراطية والدكتاتورية فكرياً، ويفصّل في معالم كل منهما مع إعطاء أمثلة مبسطة وأخرى تاريخية.
-
سياسة الحكم عبر التاريخ
معظم المفكرين السياسيين في التاريخ البشري حتى وقت قريب كانوا ينظّرون للسياسة من زاوية محدودة، ألا وهي السلطة المحصورة في يد عدد محدود من الأشخاص.
أفلاطون مثلاً لم يكن من أنصار الديمقراطية التي بنظره قد تؤدي إلى الغوغائية. بل كان يعتقد بأن الحكم يجب أن يكون للفلاسفة العقلاء وليس لعامة الشعب.
ولعل أهم الأعمال الأدبية السياسية التي تعبر عن هذا المنهج الفكري هو كتاب “Leviathan” لتوماس هوبز (Thomas Hobbes).
عاش توماس هوبز فترة عدم استقرار حدثت فيها الحرب الأهلية في القرن السابع عشر قي انكلترا، مما جعل منه متخوفاً من حكم الرعاع. لذلك، فقد كان هوبز يؤمن بأن الطريق لاستقرار المجتمع هو سلطة الملك المطلق العادل الذي يعمل لصالح رعيته.
ولكن من المهم أن نلاحظ أن هذين المفكرين وغيرهما كانوا أبناء وقتهم حين لم يكن هنالك تجربة ديمقراطية بمعناها العصري.
كما أنه من المهم أن نلاحظ بأن الحاكم على مر التاريخ يسخّر الموارد المتاحة له لخدمة مصالحه الشخصية. ولا أدلّ على ذلك من أباطرة الروم، وخلفاء المسلمين، وملوك فرنسا.
وحنى إن كان الحاكم فاضلاً، فإن حكمه المطلق الذي لا يخضع للمساءلة سيسمح له باتخاذ قرارات تخدم مصالحه الشخصية دون الرعية، أو اتخاذ قرارات مبنية على وجهة نظره دون العودة للأخصائيين. ولعل هذه الفكرة هي ما أشار إليه المفكر الفرنسي مونتسكيو (Montesquieu) في القرن الثامن عشر من الحاجة لنوع من تعدد للسلطات حتى لا ينفرد شخص أو جهة واحدة بالحكم.
-
تضارب المصالح
هدف أي صاحب سلطة هو الاستفادة من تلك السلطة والتمسك بها لأطول فترة ممكنة.
قد يدعي أحدهم بأنه يريد الوصول إلى السلطة لنصرة الشعب أو إحقاق الحق. ونحن لسنا بصدد تقييم نوايا الطامحين للحكم أو فلسفتهم الأخلاقية. ولكن من الضروري إدراك أنه مهما كانت النوايا “حسنة”، فإن الحاكم الذي لا يخضع للمساءلة سوف يتّبع سياساته وأجندته الخاصة. فهو إذاً يبغي الاستفادة من السلطة لفرض أجندته طالما كان متمكناً من البقاء في الحكم بغض النظر عن القيمة الأخلاقية لتلك الأجندة.
لهذا، علينا دائماً أن نفكر من وجهة نظر من يحكم وكيف سيسخّر اولئك الذين يحكمهم والذين لا يمتلكون السلطة لتنفيذ رؤيته ومصالحه. فالحاكم والمحكوم هم غالباً في تضاد في المصالح من حيث المبدأ.
-
نموذج مصغر: موازين القوى في البيت
لتبسيط الفكرة، لنأخذ عدة نماذج لعائلات مختلفة وندرس العلاقات التي تحكم أفرادها.
لنبدأ بالعائلة رقم 1 المكونة من أرملة مع ولدين. في هذه العائلة، تمتلك الأم سلطة مطلقة دون منازع كونها البالغ الوحيد. وكلمتها هي الفاصلة في جميع الأمور المفصلية في حياة الأسرة، وعلى الولدين اتباع توجيهات الوالدة دون أن يكون هنالك ثقل معتبر لإرادتهما.
لندرس عائلة أخرى. ماذا لو تكونت العائلة رقم 2 من زوجين وولديهما. في هذه الحال، لا يستطيع أي من الأبوين الانفراد بالسلطة بشكل مطلق. فلابد أن يكون هنالك نوع من التشارك في السلطة وموازين القوى. لكن سلطتهما تبقى أعلى من سلطة الولدين.
الجدير بالملاحظة هنا أن سلطة البالغ أصبحت أقل في العائلة 2 منه في العائلة 1.
ماذا لو أخذنا العائلة رقم 3 التي تشبه العائلة رقم 2 (أي زوجين وولدين) ولكن مع جدين يسكنان في نفس البيت؟ بالتأكيد ستنقص صلاحيات كل من الزوجين لتَشارُكِهما بنسب معينة من السلطة مع الجدين الذين سيتدخلان في شؤون البيت.
نلاحظ مرة أخرى تناقص سلطة البالغ مع ازدياد عدد الأفراد ذوي النفوذ.
لو نظرنا إلى الأمثلة الثلاثة السابقة، لاستطعنا تقسيم أفراد العائلة إلى 3 طبقات 1:
- طبقة لا تملك أي سلطة (intergangeables): وهي الأولاد
- طبقة السلطة (essentials): وهي الزوجين
- طبقة مؤثرة على السلطة (influentials): وهي الجدين
وهنا نستطيع أن نلاحظ مبدأً عامّاً ينطبق على الحكومات بشكل عام وهو:
كلما ازداد حجم الحكومة وعدد أفرادها المشاركين في السلطة، كلما قل تركيز السلطة بيد شخص أو جهة معينة.
لنأخذ مثالاً رابعاً. الأسرة رقم 4 مؤلفة من زوجين وأربعة أولاد. إذا ما قارنا هذه الأسرة بالعائلة رقم 2 التي لديها ولدين فقط، للاحظنا أن الأسرة رقم 4 تستطيع تسخير عدد أكبر من الأولاد لإنجاز مهام معين في البيت. أي أنه بازدياد حجم الطبقة التي لا تمتلك سلطة، ازداد تركيز القوة لدى طبقة السلطة.
وبشكل عام، يمكننا القول بأن تركيز السلطة يتناسب طرداً مع حجم طبقة الرعية وعكساً مع حجم الطبقة الحاكمة.
إن تركيز السلطة هو مقياس جيد لمدى ديمقراطية أو ديكتاتورية حكومة معينة كما سنناقش في الفقرة التالية.
\(Dictatorship ∝ \frac{number_of_essentials}{number_of_interchangeables} \)
-
الديمقراطية والدكتاتورية وما بينهما
إذاً، بإمكاننا الاستنتاج من الفقرة السابقة بأنه كلما قل عدد الأشخاص الذي يعتمد عليهم الحاكم أو يشاركهم في الحكم، كلما كانت فرصته للبقاء في السلطة وتنفيذ أجندته أكبر.
طبعاً لا يمكن لأي شخص أن يحكم دولة أو مجتمعاً بمفرده، بل عليه الاستعانة بآخرين لتنفيذ أجندته والإشارة عليه. وهنا يكمن جوهر الاختلاف بين الديمقراطية والدكتاتورية.
فالديمقراطية والديكتاتورية هما نهايتا طيف. الحكومة لا تكون ديكتاتورية 100% ولا ديمقراطية 100%، إنما تكون على درجة معينة منهما بحسب عدد الأشخاص الضروريين للاستمرار في الحكم.
فإذا أخذنا الدول الديمقراطية نسبياً، وجدنا فيها انتخابات دورية لاختيار الحكومة من عامة الشعب، مما يعني أن من يملك مقاليد الحكم عليه أن يرضي أكبر عدد ممكن من الناس حتى لا تسقط حكومته في الانتخابات المقبلة. إن السياسيين يريدون أن يتم إعادة انتخابهم، فيحاولون جاهدين أن يقدموا الخدمات العامة و يدعموا النمو الاقتصادي في مناطقهم الانتخابية، بالإضافة إلى سن القوانين التي يطالب بها جمهورهم الانتخابي حتى لا يتخلى عنهم لصالح حزب اخر.
إذاً فالحاكم هنا يعتمد على عدد كبير نسبياً من الناس للبقاء في السلطة.
كما نجد في تلك الدول الديمقراطية تعدداً للسلطات وأن كل سلطة تُسائل الأخرى وتفرض قيوداً عليها، مما يؤدي إلى توزع للقوة على عدد أكبر من الناس بتركيز أقل في كل شخص أو جهة على حدى.
في المقابل، نجد في الدول الدكتاتورية نسبياً أن الانتخابات معدومة أو شكلية لا يمكن أن تؤدي إلى التغيير. كما نجد أن الحاكم يحيط نفسه بعدد قليل من الشخصيات صاحبة القوة مع تركيز أعظم للسلطة في شخصه. فكل ما على الدكتاتور هنا هو أن يرضي تلك الثلة القليلة حوله دون أن يهتم لحال الرعية.
-
أمثلة
سنتناول هنا عدداً من الأمثلة التي توضح ما شرحناه سابقاً:
- الاتحاد السوفييتي السابق: اتسم الاتحاد السوفييتي السابق بكونه دولة ذات حزب واحد تتركز السلطة فيه في يد السكرتير العام للحزب، بينما يمكن استبدال معظم أعضاءه الذين يضفون شرعية صورية دون أن يمتلكوا أي سلطة حقيقية. أما الشعب، فكان يمارس السياسة من خلال استفتاء شكلي لا يسمح فعلياً بتغيير الحاكم.
إذاً، بإمكاننا القول أن تركيز السلطة كان كبيراً جداً. حيث أن بضعة أشخاص فقط من أصل الملايين كان لهم التأثير في أي تغيير للسلطة. ولم يتغير ذلك حتى وقت متأخر حين حاول غورباتشوف التخفيف من سياسة القبضة الحديدة والاتجاه نحو منح مزيد من الحريات لدول الاتحاد، بينما تستمر العديد من الحكومات الدكتاتورية في السير على نفس النموذج حتى يومنا هذا. - كندا: كندا هي اتحاد فدرالي من 13 مقاطعة. على المستوى الفدرالي، يمارس الفرد الحق في الانتخابات المباشرة لأعضاء البرلمان. ولكل مقاطعة عدد معين من النواب بحسب تعداد سكانها. كما يمارس الفرد حق انتخاب حكومة مقاطعته بالإضافة للانتخابات المحلية. إذاً، فالفرد يستطيع التأثير على الحكومة بمختلف مستوياتها، وخصوصاً من خلال التعددية الحزبية التي تسمح بتشكيل تحالفات وموازين للقوى تؤدي إلى درجة معينة من التراضي بين الجميع. كما أن تعدد الحكومات والسلطات يمنع تركز السلطة، وبالتالي يؤدي إلى إرضاء شريحة أكبر من المجتمع.
- مصر إبان حكم الضباط الأحرار: بعد خلع الملك فاروق، حكمت مصر ثلة من الضباط أمثال محمد نجيب وعبدالحكيم عامر وجمال عبد الناصر. نلاحظ أن السلطة لم تتركز في يد شخص واحد، وإنما توزعت في أيدي مجموعة صغيرة من العسكر الذين كانوا على قدر متكافئ من القوة. ويعرف هذا بالمجلس العسكري (military junta).
- الشركات: لا تقتصر الديمقراطية والدكتاتورية على أنظمة الحكم، وإنما يمكن تطبيقها على أي نظام إداري. فمثالاً، في الشركات، يكون اتخاذ القرار محصوراً في مدير الشركة (CEO)، ومجلس الإدارة، وكبار المستثمرين. لذلك فإنها أقرب للدكتاتورية منها للديمقراطية كون الشريحة الكبرى من العاملين في الشركة لا تملك أي سلطة.
-
خاتمة
وضحنا في هذا المقال تعريف كل من الديمقراطية والدكتاتورية، ووضحنا ببعض الأمثلة درجات هذا الطيف من أنظمة الحكم. كما بيّنّا كيف أن تمييز موقع نظام حكم معين على هذا الطيف يعتمد على نسبة اولئك الذين يملكون السلطة إلى اولئك الذين لا يملكونها.
في مقالات مقبلة، سيكون لنا عودة إلى هذا الموضوع للتفصيل في النتائج المترتبة على كل من الديمقراطية والدكتاتورية في كيفية الحكم والنواحي المدنية والاقتصادية وغيرها في المجتمع.