-
مقدمة
قد يبدو السؤال عن المعرفة (ontology) وكيفية الوصول إليها (epistemology) بديهياً، فأغلبنا سيقول أن التفكير بالعقل هو أساس المعرفة، وقد يقول البعض الآخر أن المعرفة تأتي نقلاً عمّن هو أعلم منك من العلماء. ولكن في الحقيقة، هنالك تساؤلات تحوم حول كلتا الطريقتين.
يحاول هذا المقال دراسة مفهوم المعرفة والوصول إليها، رابطاً ذلك بشرح ماهية الطريقة العلمية وإطار تطبيقها.
-
الفلسفة العقلانية (Rationalism):
تقول العقلانية بأن العقل هو أساس الحقيقة والمعرفة، ولعل أشهر الأمثلة على هذا المذهب هو رينيه ديكارت (René Descartes)، الفيلسوف الفرنسي في القرن السابع عشر، حين قال: “أنا أفكر، إذاً أنا موجود.”. فديكارت اتبع مبدأ الشك في كل شيء، حتى عاد إلى نقطة الصفر وأقر أن الشيء الوحيد الذي يثق بوجوده هو عقله لأنه يفكر، ومن ثم استعمل المنطق فبنى من هذه القاعدة معرفته خطوة خطوة.
ولكن هذا المذهب أقدم من ذلك بكثير. بل هو قديم قدم الفلسفة اليونانية. ولعل كهف أفلاطون مثال واضح على هذا المذهب.
يضرب أفلاطون مثلاً عن سجناء يعيشون في كهف منذ ولادنهم ولم يخرجوا منه أبداً. هؤلاء الأشخاص مقيدون ولا يستطيعون الاستدارة، ولا يرون إلا حائطاً أمامهم. وراء هؤلاء الأشخاص نار، وبينهم وبين النار يمر أشخاص وأشياء أخرى، فلا يرى السجناء إلا ظلالهم مسقطة على الجدار. ولما كان هؤلاء السجناء ولدوا على هذه الحال، فهم يعتقدون أن هذه الظلال هي الحقيقة. ولكن لو حررنا أحدهم وشاهد ما خلفهم، سيعرف أنها مجرد إسقاطات للحقيقية.
أراد أفلاطون من مثال كهفه أن يشبّه ما نتوصل إليه بأحاسيسنا بالظلال، وأن كل ما نعرفه من خلال معطياتنا المادية ما هو إلا إسقاط منقوص لجوهر لا يمكن التوصل إليه إلا بالتحرر من الحواس، واستخدام العقل والفلسفة.
والاعتقاد بأن التفكير والعقل أصل المعرفة هو قديم جداً، ولا يزال مهيمناً إلى يومنا هذا بشكل واسع بين الناس، وهو ما قامت عليه المناظرات بين مختلف الأديان والمذاهب في العصور الوسطى. وهو بشكل عام ما تقوم عليه الفلسفة.
إشكالية المذهب العقلاني
قد يبدو المذهب العقلاني مصدراً موثوقاً للمعرفة. ففي النهاية، تعتبر الرياضيات بشكل عام علماً ذهنياً غير محدود بالعالم المادي.
فمثلاً، يمكن في الرياضيات أن ندرس فضاءً خماسي الأبعاد أو ذا عشرين بعداً، ونبني نتائج مترتبة على ذلك. ولكن تلك النتائج لا تنطبق بالضرورة على الكون الذي نعيش فيه. فنحن نعيش في فضاء ثلاثي الأبعاد من حيث المكان. ويمكن أن ندرس كوناً محدباً أو مقعراً أو مستوياً، ولكل فرض نتائجه، ولكن لن يكون هنالك إلا إجابة واحدة تنطبق على الكون الذي نعيش فيه.
وكذلك الفلسفة. فالفلسفة فعلياً هي صياغة للتساؤلات والأفكار ومحاولة مقاربتها. ولكنها ذهنية لا تحتاج إلى اختبارات أو بيانات. فمثلاً، هنالك فلسفة شيوعية وفلسفة إسلامية، وكل منهما تبني منظوراً معيناً للمجتمع، ولكن مدى تطابق تلك الرؤية مع الواقع أمر آخر.
ومن هنا نرى أن المثالية ليست مصدراً يعول عليه للوصول إلى معرفة العالم المادي الذي نعيش فيه.
-
التوسل بالمرجعية (Appeal to Authority):
الطريقة الأخرى المشهورة من حيث تحصيل المعرفة هي الوثوق بالمرجعية. وهذه الطريقة تقول بأنه إذا كان شخص ما خبيراً في موضوع معين، فيمكن استقاء المعرفة في هذا الموضوع عنه ويكون ذلك كافياً. وأغلبنا يتبع هذا المنهج في كثير من مناحي الحياة عند ترديد ما نقرأه في مقالة، أو نسمعه من التلفاز. وهذه الطريقة هي من أهم الطرق التي يتعلم من خلالها الإنسان. فالطفل يتعلم من أبويه في الصغر، ومن معلمته في المراهقة، ومن المقالات والكتب وغيرها في الكبر.
وفي كل مرحلة من تلك المراحل، يأخذ الإنسان المعلومة على أنها منقولة عن شخص موثوق، ولذلك يثق في صحتها أكثر كلما كان المصدر أكثر ثقة.
إشكالية التوسل بالمرجعية
الإشكالية هنا أن هذه الطريقة قائمة على الثقة. وكما نعلم، ففي كثير من الأحيان لا تكون الثقة في محلها. فمثلاً، قد يكون هنالك أشخاص يدّعون العلم في مجال معين لمآرب شخصية.
أو قد يكون المرجع مخطئاً عن غير قصد. والتاريخ العلمي ممتلئ بأمثلة عن علماء كانت لديهم أفكار تبيّن في ما بعد بأنها خاطئة. فمثلاً، أينشتاين كان لديه حدس معين وانتقادات في مجال ميكانيك الكم، لكن ثبت أنها غير متفقة مع التجربة لاحقاً.
-
المذهب التجريبي (Empiricism):
المذهب التجريبي يقول بأن التوصل إلى المعرفة يكون عن طريق استخدام الحواس للملاحظة والتجربة.
وقد تطور هذا المذهب على عصور مختلفة، مروراً بالعلماء التجريبيين في العصور الوسطى، كابن سينا. وعصر النهضة في اوروبا، كغاليليو، ولكن تبلور هذا المذهب في بريطانيا في القرن السابع عشر على أيدي مجموعة من الفلاسفة كلوك (John Locke) وهيوم (David Hume).
والمذهب التجريبي يقول بأن كل ما لا يمكن التوصل لمعرفته عن طريق الحواس لا يمكن اعتباره موجوداً، أو على الأقل لا يمكن إثبات أو نفي وجوده، وليس لاعتباره موجوداً أي تأثير. فمثلاً، لو أن أحدهم قال بأن هنالك شبحاً في الغرفة ولكننا لا نستطيق قياسه عن طريق أي من الحواس أو الأدوات المادية، فلن يكون باستطاعتنا إثبات أو نفي وجود الشبح، ولكن في نفس الوقت فإن الشبح لا يؤثر على عالمنا المادي كونه غير محسوس، ولذلك لا معنى للإيمان بوجوده.
ويعتبر المذهب التجريبي هو المذهب المسيطر على كيفية التوصل إلى المعرفة في العصر الحالي كونه مبني على ملاحظة العالم الذي نعيش فيه.
ويرتبط هذا المذهب ارتباطاً متيناً بالطريقة العلمية (Scientific Method). فالطريقة العلمية تعتمد على تكرار الملاحظة والتجربة للوصول لنظرية أو قانون يصف الظاهرة المدروسة. وكلما كانت النظرية أو القانون أكثر قدرة على التنبؤ بنتائج التجربة أو ملاحظة الكون، كلما كانت أكثر اعتماداً وصحةً. وسيكون لنا حديث تفصيلي في مقال لاحق في وصف الطريقة العلمية وكيفية توصلها للقوانين والنظريات.
التوسل بالمرجعية داخل المذهب التجريبي
من الاعتراضات على المذهب التجريبي أنه لا يمكن لأي فرد أن يقوم بجميع التجارب والملاحظات الممكنة في الكون ليبني معرفته بنفسه. وهنا تظهر إشكالية أنه حتى في المذهب التجريبي، نبني معرفتنا عن طريق الاطلاع على ما قاله علماء آخرون، وبذلك نكون قد عدنا إلى إشكالية التوسل بالمرجعية.
وهذا الاعتراض مهم ويجب تفنيده. وفي الحقيقة هو اعتراض صحيح. فكما بيّنّا في فقرة سابقة، الاحتكام إلى مرجع، مهما كان ذكياً، لا يعتبر أساساً علميّاً. لكن الفرق هنا أن العلم يحتكم إلى إتفاق المجتمع العلمي على النظرية أو القانون من خلال دراسة التجارب والملاحظات ونتائجها.
وبالتالي، هذه الطريقة لا توصلنا لحقيقة مطلقة لسببين:
- لا يمكن الوصول للحقيقة المطلقة من خلال الملاحظة والتجربة. فهنالك دائماً مجال للخطأ في القياس أو النقص في بيانات التجربة. ومن الأمثلة الشهيرة في هذا الموضوع ميكانيكا نيوتن الكلاسيكية. حيث كانت ميكانيكا نيوتن التي صيغت في القرن السابع عشر قادرة بدقة على وصف نتائج الملاحظة والتجربة لقرنين من الزمن. ولكن مع الوقت بدأت بعد الملاحظات بإعطاء نتائج مختلفة بقدر بسيط عما تتنبأه قوانين نيوتن، حتى تم لاحقاً وضع النظرية النسبية من قبل اينشتاين في القرن العشرين التي كانت أكثر جدوى ودقة. وهنا لا نقول أن قوانين نيوتن كانت خاطئة، ولكنها كانت قاصرة لأن الأدوات في زمن نيوتن لم تكن قادرة على الرصد بالدقة ذاتها في القرن العشرين. وقد يأتي يوم توضع فيه نظرية أكثر دقة من النظرية النسبية.
- العلماء يمكن أن يخطئوا لأسباب غير علمية كونهم بشراً. فأحياناً قد ينشر العلماء نتائج منقوصة للحصول على منح وتمويل. ولكن النظام القائم على النقد والتمحيص من قبل علماء آخرين ذوي خبرة في نفس المجال ولا يشتركون في المصالح مع صاحب البحث المنشور يجعل احتمال الخطأ أقل وإن لم يكن معدوماً.
-
خاتمة
قد يصعب اعطاء تعريف دقيق وشامل لمصطلح المعرفة. ولكن بالإمكان القول بأن المعرفة النافعة هي المعرفة التي توصلنا لفهم العالم الذي حولنا سعياً لاستخدام هذا الفهم لتطوير حياتنا نحو الأفضل. أما المعرفة بالماورائيات (metaphysics) فحتى لو لم يكن لدينا الأدوات لإثباتها أو دحضها، فهي تعريفاً لا تؤثر على الكون والطبيعة أو على حياتنا كونه لا يمكن ملاحظتها أو قياسها.
وهذا ما جعل المنهج التجريبي ناجحاً في القرون الأخيرة، وأسرع عجلة التطور. إذ أن اعتماد الإنسان على هذا المنهج جعله أكثر فعالية من استعمال الفلسفة العقلية، أو الخيال البحت الغير مدعوم بالتجربة، أو النقل عن المفكرين السابقين. فتلك الأدوات محدودة بزمانها ومكانها وإسقاطها على الكون غالباً ما يحمل قصراً أو إشكالات.
وإذ أننا نعترف بأن الطريقة العلمية لا تنتج حقائق مطلقة، فهي باتباعها منهجا ملتزماً بالواقع توجه الباحث في الطريق الصحيح نحو بناء معرفة أدق بشكل تدريجي.
-
مصادر:
(By Veldkamp, Gabriele and Maurer, Markus [CC BY-SA 3.0], via Wikimedia Commons)
!Amazing! I cannot read any of this