مدخل إلى الاقتصاد السلوكي

Sale

في حياتك اليومية، قد تأخذ العديد من القرارات الاقتصادية. بعضها بسيط كشراء فنجان قهوة، وأخر ذو تبعات جمة، كشراء بيت أو سيارة. لكن، إن نظرنا إلى هذه القرارات بشكل علمي، نجد أن هنالك عدة ملاحظات مهمة علينا أن نكون متيقظين لها، وهي متعلقة بكيفية عمل عقل الإنسان. سوف نلقي نظرة على عدد من هذه الإشكاليات. والغرض هنا هو التنبيه إلى أنه من الصعب على الإنسان أن يعيد برمجة نفسه ليتوقف عن التفكير بهذا الأسلوب. فهذا أمر غريزي. وإنما علينا فقط أن نكون متنبهين لهذه الغريزة، ونحاول تصحيحها قبل اتخاذ أي قرار.

الارتباط بنقطة مرجعية (Reference Dependence):

قارن بين حالتين. في الأولى، إنها ليلة عيد ميلادك. أحد أصدقائك قد هاتفك صباحاً بأنه قادم للاحتفال بك. وقد جلب معه كعكتك المفضلة. طبعاً هذا يشعرك بالسعادة. في الحالة الثانية، تكونين جالسةً في المساء. يطرق الباب. تفتحينه، فتجدين صديقتك عند الباب وهي تحمل مفاجأة معها: كعكتك المفضلةَ! طبعاً ستشعرين بسعادة غامرة. في الحالتين، الكعكة هي نفسها. ولكن، كون الأمر كان مفاجأة في الحالة الثانية جعل قيمة الكعكة أكبر لديك. إذاً، فمقدار السعادة بشيء ما لا يتعلق فقط بقيمته، وإنما بتوقعاتنا أيضاً. تسمى هذه الظاهرة الخطء في توقع المكافأة (Reward Prediction Error)، وهي مرتبطة بكيفية عمل الدماغ الذي يطلق الدوبامين (Dopamine) عندما تكون النتائج تفوق التوقعات.
إذاً، فتوقعاتنا تخلق نقطة مرجعية لقراراتنا. إذا كان الواقع يفوق التوقعات، نشعر بالفرح والحماس بشكل أكبر بكثير منه إذا وافق التوقعات، بغض النظر عن القيمة الموضوعية.
يستخدم المسوقون هذه الظاهرة بشكل متكرر. قمثلا إذا قارنت بين احتمال بيع قطة ثياب بسعرها العادي، 10 دولارات مثلاً، واحتمال بيعها إذا كانت مسعرة بـ 20 دولار مع خصم 50%، فستجد أن الناس ستكون أكثر حماساً في الحالة الثانية مع أن قيمة القطعة هي نفسها. ذلك أن السعر الأصلي يشكل نقطة مرجع لتوقعاتنا.

تجنب الخسارة (Loss Aversion):

في إحدى الأيام، كنت تمشي في الطريق، فوجدت 10 دولارات متسخة مرمية على الطريق. طبعاً، ستكون فرحاً وتعتبر نفسك محظوظاً. لكن، ماذا لو أضعت 10 دولارات؟ سوف تقلب غرفتك رأساً على عقب وسوف يتعكر يومك بشكل كامل إن لم تجدها. إن تأثير إضاعة المبلغ كان له سلبية أكبر بكثير من إيجابية إيجاده. يكمن السبب في أننا لا نتعامل مع الخسارة والربح بنفس الموضوعية. فقد وجد الباحثون أن تقييمنا النفسي للخسارة هو بحدود ضعفي تقييمنا للربح.

اقتصاد  مدخل إلى الاقتصاد السلوكي ValunFunProspectTheory2
المنحنى البياني لتجنب الخسارة. لاحظ أن الخسارة (Losses) هي ضعف الربح (Gain)
Image by Marc Oliver Rieger, distributed under a Creative Commons Attribution-Share Alike 3.0 Unported.

أثر الهدية (Endowment Effect):

أنت من هواة القراءة ويحب جمع الكتب. ذات مرة، فزت بنسخة مجانية من كتاب في الاقتصاد. في زيارة لأحد أصدقائك، عرض عليك صديقك شراء الكتاب. فكت وقررت أنك لن تبيع الكتاب بأقل من 10 دولارات. إذاً، يمكن أن نستنتج أن قيمة الكتاب لديك هي 10 دوارات. صحيح؟ ولكن، التجارب قد أثبتت أن هذا غير دقيق. فلو لم تتلق الكتاب مجاناً وأردت شراءه، لوجدنا أنك غالباً لن تشتريه بأكثر من 5 دولارات.
هذه الظاهرة المسماة بأثر الهدية (Endowment Effect) تشير إلى أن قيمة الشيء بالنسبة لنا تعتمد فيما إذا كنا نملكه أولاً. وهذه الظاهرة مرتبطة بظاهرة الارتباط بالمرجع (Reference Dependence) التي أشرنا إليها سابقاً. فنقطة المرجع تغيرت مع تغير حالة الامتلاك للشيء.
مثال حي آخر يظهر في دراسة لتوزيع بطاقات مباريات كرة السلة في جامعة Duke الأمريكية. في هذه الجامعة، يقوم توزيع بطاقات المباراة النهائية على طريقة اليانصيب . وعند سؤال الطلاب عن السعر الذي يقبلونه لشراء البطاقة، كان الجواب الوسطي 150 دولاراً. ولكن عند سؤال اولائك الذين ربحوا البطاقة عن السعر الذي يرضونه لبيع البطاقة، كان جوابهم 10 أضعاف، أي 1500 دولاراً! لاحظوا كيف أن الفارق يخلق خللاً في السوق حيث هنالك هوة كبيرة بين العرض والطلب.
هذه الظاهرة أيضاً مرتبطة بظاهرة أشرنا لها سابقاً، وهي تجنب الخسارة (Loss Aversion). فعند امتلاك الشيء، ننظر إلى بيعه على أنه خسارة. بينما عند شرائه، ننظر له على أنه كسب. ومن هنا تكون وجهتا النظر مختلقتين مع أن القيمة الوضوعية للشيء هي نفسها في الحالتين.

أثر حجم المجال (Range Effect):

فكر أنك تريد شراء كأس عصير. هنالك محلان، الأول يبعد مسافة دقيقة مشياً ويبيع الكأس ب 15 دولاراً ، والآخر مسافة ربع ساعة ركوب بالسيارة، ولكنه أرخص ويبيع الكأس بـ5 دولارات. معظمنا لن يقبل بهدر 10 دولارات، وسيركب السيارة حتى لو كلفه ذلك 30 دقيقة ذهاباً وإياباً.
في يوم آخر، أردت شراء سيارة. هنالك محل بقربك يبيع السيارة التي تريدينها بـ 4000 دولار، وهنالك محل آخر يبعد ربع ساعة يبيع سيارة مشابهة بـ 3990 دولاراً. في هذه الحالة، سيكون حافزك في الذهاب للمكان الأبعد أقل بكثير. سننظر للعشر طولارات في الحالة الثانية بنوع من الإهمال، مع أن المبلغ المهدور هو نفسه. أثر حجم المجال هنا يجعلنا نقارن من حيث القيمة النسبية وهي 60% في المثال الأول و0.25% في الثاني، بدل أن نقوم بمقارنة للقيمة المطلقة. هذا طبعاً مثال آخر على الارتباط بنقطة مرجع. ففي المثال الأول، نقطة المرجع كانت 5 دولارات، بينما كانت 3990 في الثاني. أذهاننا ببساطة لا تعرف التعامل مع الأرقام بشكل خطي. فكلما كبرت الأرقام، كلما قلة الدقة في تعاملنا معها.

إذاً، ماذا بإمكاننا أن نفعل؟!

كما رأينا، هنالك العديد من العوامل الذهنية التي تؤثر على اتخاذ قراراتنا دون أن نشعر. هل نستسلم؟ طبعاً لا. مع أننا لا نساطيع تغيير غرائزنا، إلا أننا بإمكاننا أن نحكم عقلنا ولا ندع تلك الغرائز تحكمنا. فمثلاً، عند اتخاذ قرارات مالية، علينا أن نسأل أنفسنا إذا كنا منتبهين لنقطة مرجعيتنا، وأن نحاول تغييرها لنرى إن كان ذلك يغير قرارنا. وعند بيع الحاجيات، علينا أن ننتبه فيما كانت عواطفنا تمنعنا من وضع سعر منطقي للأشياء. إن إتقان هذه العقلية سيتطلب وقتاً وممارسة، ولكنه ممكن وسيقودنا إلى قرارات أكثر عقلانية مع الوقت.

المصدر

The Great Courses – Behavioral Economics: When Psychology and Economics Collide – Professor Scott Huettel. Duke University

(Photo by Artem Beliaikin from Pexels)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *